لم تعد البروباغندا، في صيغتها المعاصرة، فعلًا استثنائيًا يُمارَس في لحظات الحرب أو الأزمات الكبرى، بل أصبحت نمطًا دائمًا من أنماط تنظيم المجال العام. وفي قلب هذا التحول، تقف العلاقات العامة لا بوصفها ممارسة تواصلية بريئة، بل كأحد أهم التقنيات التي يُعاد عبرها تعريف ما يُعتبر حقيقة، وما يُستبعَد بوصفه هامشيًا أو غير ذي صلة.
من الخطاب إلى النظام الخطابي
في السياق الكلاسيكي، كانت العلاقات العامة تُمارَس ضمن أفق خطابي واضح: جهة ترسل رسالة، وجمهور يتلقّاها، مع افتراض وجود مسافة نقدية بين الطرفين. غير أن هذا النموذج انهار مع تحوّل الإعلام من وسيط إلى بيئة، ومن ناقل للمعلومة إلى بنية تحيط بالوعي من كل الجهات.
في هذا التحول، لم تعد العلاقات العامة تُنتج خطابًا، بل تُسهم في إنتاج النظام الخطابي نفسه: أي القواعد غير المعلنة التي تحدد ما يمكن قوله، ومن يملك حق قوله، وبأي لغة، وتحت أي افتراضات مسبقة.
هنا تصبح البروباغندا الحديثة أكثر تعقيدًا: فهي لا تفرض رواية واحدة بالقوة، بل تنظّم تعدد الروايات داخل إطار لا يُمسّ.
البروباغندا بوصفها إدارة للمعقول
لا تعمل البروباغندا المعاصرة على إقناع الجمهور بأفكار غير معقولة، بل على إعادة تعريف ما هو «معقول» أصلًا. إنها لا تحتاج إلى تزوير الوقائع، بل إلى ترتيبها ضمن تسلسل يبدو منطقيًا، مكتملًا، ومغلقًا على ذاته.
وهنا يكمن التحول الجوهري من الترويج إلى التضليل الممنهج:
-
حين يصبح السياق عبئًا يجب تبسيطه
-
حين يُختزل التعقيد بوصفه تشويشًا
-
حين تُقدَّم البدائل على أنها غير عملية، غير واقعية، أو غير ناضجة
البروباغندا لا تُقصي الأفكار، بل تُفرغها من قابليتها للتداول الجدي.
العلاقات العامة كجهاز للسلطة الناعمة
في المجتمعات المعاصرة، لا تُمارَس السلطة أساسًا عبر المنع، بل عبر الإنتاج: إنتاج المعاني، الأولويات، والاهتمامات. وبهذا المعنى، تصبح العلاقات العامة جزءًا من ما يمكن تسميته بـ«أجهزة السلطة الناعمة»؛ تلك التي لا تفرض الامتثال، بل تصنعه.
لماذا تبدو البروباغندا الحديثة غير مرئية؟
العلاقات العامة هنا لا تروّج لحدث، بل تروّج لإطار فهمه. وحين يصل الحدث إلى الجمهور، يكون قد فُسِّر سلفًا، وصُنّفت ردود الفعل الممكنة عليه.
وهكذا، لا يُقمع الوعي، بل يُدار.
خاتمة: ما بعد السؤال الأخلاقي
إن اختزال العلاقة بين العلاقات العامة والبروباغندا في بعد أخلاقي صدق مقابل كذب يُفوّت جوهر المسألة. القضية ليست في نوايا الممارسين، بل في البنية التي يعملون داخلها: بنية تُكافئ التبسيط، وتُعاقب التعقيد، وتُعيد إنتاج سرديات القوة بوصفها عقلًا مشتركًا.

