لم تكن وفاة الطبيبة العراقية بان زياد طارق مجرّد حادثة غامضة تضاف إلى سجل قضايا العنف في المجتمع العراقي، بل تحولت إلى مرآة واسعة عكست توتّرات نفسية واجتماعية وسياسية دفينة. فبين الرواية الرسمية عن انتحارها، وبين آثار الطعن والدماء والرسائل المرسومة على جدران الحمام، ولِغز الكاميرات المعطلة، نشأ فراغٌ نفسي هائل: فراغ الحقيقة!
انتحار أم قتل؟ سؤال الهوية الجمعية
حين يشكّك الشارع في رواية الانتحار، فهو لا يشكّك فقط في سبب موت بان، بل في صدق النظام الاجتماعي والسياسي.
- الفرد العراقي لم يعُد ينظر إلى القضايا بمعزل عن محيطها؛ بل أصبح يرى في كل حادثة شخصية امتدادًا لخيبات عامة.
- لذلك، فإن الشك في “رواية الانتحار” يعكس في العمق انعدام الثقة بالمنظومة كلها: الأسرة، الأمن، العدالة، وحتى المؤسسات الطبية.
إنها ليست فقط قضية بان، بل قضية كل عراقي يسأل داخله: هل نحن آمنون حقًا؟ هل تُروى قصصنا كما حدثت؟ أم كما يُراد لها أن تُروى؟
البُعد النسوي: جسد المرأة كمساحة للصراع
في التحليل النفسي للمجتمعات، غالبًا ما يصبح جسد المرأة مسرحًا للرموز والصراعات.
بان لم تُقتل – أو تنتحر – بوصفها فردًا فقط، بل بوصفها امرأة، طبيبة، مثقفة، شاهدة على جريمة سابقة.- لذلك، فإن الغضب الشعبي لم يكن عن رحيلها فقط، بل عن تكرار استهداف النساء اللواتي يمثلن سلطة معرفية أو أخلاقية.
المرأة هنا ليست جسدًا فقط، بل هي حاملة للمعنى، وقتلها (أو دفعها للانتحار) يعني محاولة اغتيال صوت مختلف، أو تهشيم رمز مقاوم.
اللاوعي الجمعي العراقي: من الصدمة إلى الاحتجاج
اللاوعي الجمعي يعمل كخزانٍ للرموز والآلام التي يتشاركها المجتمع.
- في حالة بان، بدا واضحًا أن اللاوعي الجمعي في العراق استيقظ دفعة واحدة:
- صورها في الشارع.
- المظاهرات النسوية الغاضبة.
- الشعارات المطالبة بالحقيقة.
كلها ليست مجرد حركات احتجاج، بل محاولات نفسية لإعادة التوازن الداخلي لمجتمع يعيش منذ عقود بين جروح الحرب والعنف والفساد.
إن النزول إلى الشارع هنا ليس فعلًا سياسيًا فحسب، بل تفريغ جماعي للغضب المكبوت، ومحاولة للقول: “لن نسمح بموت الحقيقة مرتين، مرة في الجسد، ومرة في الرواية الرسمية.
بان كأيقونة نفسية
في التحليل الرمزي، يتحول الأفراد أحيانًا إلى أيقونات نفسية رغمًا عنهم.
- بان لم تختر أن تكون رمزًا، لكنها صارت كذلك، لأن المجتمع العراقي أسقط عليها خوفه وغضبه وآماله.
- قصتها تحولت إلى قصة كل من كُتم صوته أو شوهت حكايته.
هنا نفهم لماذا لم يهدأ الشارع: فبان لم تعد بان، بل صارت ضميرًا جريحًا يبحث عن اعتراف.
الحقيقة كعلاج نفسي جماعي
الحقيقة في قضية بان ليست ترفًا قانونيًا، بل ضرورة نفسية.
- إذا أُغلقت القضية على أنها “انتحار” بلا مساءلة، فإن الجرح سيتحوّل إلى عُقدة جماعية جديدة تضاف إلى تاريخ طويل من الجروح العراقية.
- أما إذا كُشفت ملابساتها بشفافية وعدل، فقد تتحول بان إلى رمزٍ للتغيير، وتصبح قصتها بداية شفاء نفسي واجتماعي أوسع.
إن موت بان ليس نهاية الحكاية، بل بداية أسئلة أكبر:
كيف نعيش في مجتمع لا تزال فيه الحقيقة مهددة؟ وكيف نُرمم الثقة التي انكسرت بين الفرد ومؤسساته؟