لا يخلو عالمنا من الأمراض الغريبة التي يقف العلم عاجزًا عن تفسيرها حتى الآن ، لكن يظهر العجز بشكل جَلي أمام الاضطرابات النفسية والعقلية التي تُصيب الإنسان، ويحتل المرض النفسي والاضطرابات الحيز الأكبر لأن أعراضه غير ملموسة، أي أنها لن تظهر من خلال الأشعة والتحاليل كالأمراض الجسدية، ولن يتعرف عليها الأشخاص بسهولة لعدم انتشار الوعي عنها، خصوصًا في المجتمعات ذات التعليم البسيط.
فيظن المرء أنه يُبالغ في شعوره بالألم أو الاكتئاب الغير مبرر بالنسبة له، أو يمر بتقلبات مزاجي تؤثر على علاقته العائلية والشخصية، وفي بعض الأحيان تؤثر على حالته الجسدية، وهو في الحقيقة مصاب بنوع من الأمراض النفسية التي تحتاج الذهاب لطبيب مختص، مثل الحديث مع النفس، فهل سبقَ لكَ وتحدّثت معَ نفسك؟.
تواصل مع مُصابين بمتلازمة «جوسكا».
ما هي متلازمة جوسكا؟
يُقصد بها نوع منَ الاضطرابات العقلية التي تُؤثر على نفسية الإنسان، فيتم من خلالها خلق أحاديث افتراضية معَ العقل قد تكون إما إيجابية أو سلبية، ولكن أغلب الأفراد المُصابين بها لا يُفكرون إلا بسلبية، ويتم الحوار مع العقل البشري لساعات، فيُمكن ملاحظة انعزال الفرد في مكانٍ ما والشرود بالمواقف والمواضيع داخل رأسه.
وتؤدي الاصابة بمتلازمة جوسكا إلى كتم الأحاديث التي تدور في عقل المصاب بها، وعدم مشاركته لأي مشكلة تصيبه مع الناس أو البوح بها، لأنه يقوم بالفعل بمشاركتها مع العالم الافتراضي الذي خلقه له عقله الباطن، مما يؤثر على الأداء المهني والعلاقات الاجتماعية عند المصاب، فيقع ضحية لأفكاره الداخلية ونقاشاته العميقة، وينعزل عن العالم تمامًا.
«ظننت أنه أمر طبيعي»
للوهلة الأولى التي تستمع فيها للسؤال، ستكون الإجابة الطبيعية هي «نعم»، من أجل تخطيط وترتيب الأفكار، أو لمراجعة موقف ما، لكن لن يستمر الأمر لعدّة دقائق، ومن هنا كانت الأزمة لدى «منة الله»، فبعد أن كان الأمر ينحصر في كونها تتحدث مع نفسها لعدة دقائق، تحولت الدقائق لساعات، والساعات زادت لتحتل عالمها الحقيقي.
«كنت بسرح كتير وأنا قاعدة مع أي حد، وابدأ اكلم نفسي واتخيل مواقف وارد عليها»، هكذا بدأت «منة الله» تلاحظ أن ما يحدث ليس طبيعي، ولكن بحد تعبيرها ظنت أنه أمر عادي وانها تبالغ في الاهتمام بنفسها، وحاولت ألا تعطي الأمر حيز أكبر من حجمه حتى لا تصدق أنها في مشكلة، «ودي كانت أكبر غلطة عملتها».
فتحولت المحادثة الداخلية لعالم خيالي تعيش فيه، لا تستطيع التفرقه بينه وبين الحقيقة، فـ اختلق عقلها مشاكل وحوارات تدور بينها وبين شخصيات خيالة في عقلها، وازدادت المشكلة عندما لاحظ من حولها الأمر، «كنت فاكره أنه عادي لما اكلم نفسي، بس الموضوع بدأ يتطور لما أمي لاحظت أني بدأت انعزل عن الكل»، وبحثت عن الأمر، وأخبرتني أنني مصابة بمتلازمة «جوسكا»، لم تصدق «منة الله» ما قالته والدتها، لكن بعد أن سألت أحد الأطباء النفسيين بدأت باكتشاف الأمر.
المجتمع بأكمله مُصاب بها
لا يقتصر المرض على فئة معينة من الناس، أو على مجتمعٍ معين، فمن مصر للجزائر انتشرت المتلازمة بين الشباب، هذا ما أكده «عبدالله دوني» الذي يبلغ 24 عامًا في حديثه ، «أنا واحدًا من هذه الشباب المصابة بالمتلازمة، ولكنني لست الوحيد»، إذ أكد «دوني» أن أغلب اصدقائه وجيران الحي مصابين بمتلازمة جوسكا.
واستكمل حديثه قائلًا: «بدأ الأمر معي عندما تأزمت الأوضاع المادية ودخلتُ في دائرة الديون، لم أجد من استطيع التحدث معه عن مشكلتي سوا نفسي، مما جعلني انعزل عن الجميع في بداية الأمر بمحض ارادتي، لكن تطور الأمر واصبحت أميل للبقاء وحيدًا والتحدث مع نفسي»، واختتم حديثه بأن الجميع مُصاب بهذه المتلازمة ولكنهم لا يعلمون، خاصًة الشباب الذي يعاني من الضغط الذي ولدّه المجتمع من ظروف مادية واقتصادية.
الأفكار السوداوية والسلبية من أعراض جوسكا
يرى دكتور وليد هندي، استشاري الأمراض النفسية، أن من أهم الاحدايث التي يجريها الإنسان في حياته هو حديث النفس، لأنه السبيل الوحيد للتجديد في معاملات الآخرين، وهو ما يقوم به بعض الأطباء النفسيين في رحلة علاجهم باستخدام ما يمسى بـ السايكودراما أو مسرح مورينو، وهي الطريقة التي تجعل الشخص يخاطب نفسه ليحررها من الأفكار السلبية التي تنتابه.
وأكد «هندي» على أن الفرق بين الحديث مع النفس ومتلازمة جوسكا هو الوقت الذي يستغرقه الشخص في الأمر، فـ إذا كانت الفترة التي يستغرقها بسيطة ولا تعزله عن العالم فهو أمر طبيعي، أما في حالة التأثير على نفسيه الشخص، وخلق أحاديث افتراضية مع العقل فهو مصاب عند إذ بمتلازمة جوسكا، وهي متلازمة خطيرة لا يجب التغافل عنها.
ووضح «هندي» أن أغلبية الأفكار التي تنتاب الشخص في متلازمة جوسكا هي أفكار سلبية وسوداوية، وينعزل بسببها الإنسان عن العالم، ويتسم فيها بالشرود والسرحان وعدم الانتباه لما يدور حوله، وهو الأمر الذي يتسبب له بالشعور بالعجز، أما عن أعراض المتلازمة فوضحها هندي في 5 نقاط، وهم:
الاكتئاب
شحوب البشرة
ضعف الشهية
اعتزال العالم أو الانطواء
فقدان الشغف
أسباب الاصابة بمتلازمة جوسكا
أما عن الأسباب التي تجعل الإنسان أكثر عرضه للاصابة بمتلازمة جوسكا، قام «هندي» بتلخيصها في بعض النقاط من أهمها الأهمال في مرحلة الطفولة من قبل الأهل، والقسوة الزائدة في التعامل، والنعت بألفاظ غير مرغوبة، وقلة العلاقات الأجتماعية التي تجعل الإنسان يشعر بالوحدة، والسبب الأهم هو الخذلان، فشعور الإنسان بالخذلان من قبل الشخص الذي كان يثق به هو ما يجعله يلجأ لخلق عالم موازي للحقيقة حتى يهرب له.
علاج متلازمة جوسكا
وأكد «هندي» في حديثه بأن السيدات هم أكثر عرضه للإصابة بمتلازمة جوسكا لأنهم يتعرضون للكبت بسبب طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه أكثر من الرجال، وللعلاج من متلازمة جوسكا ينصح «هندي» الأشخاص الذين يعتقدون بأنهم مصابين بها بمشاركة ما يشعرون به مع الآخرين وعدم كتم ما يجول في خاطرهم، حتى ولو عن طريق إنشاء صفحة على الفيس بوك ومشاركة المتابعين ما يخطر ببالهم. فالكتابة هي العلاج للتخلص من المشاعر السلبية التي يشعرون بها.
